حذرت رئيسة البنك المركزى الأوروبى، كريستين لاجارد، من تحولات عميقة يشهدها النظام العالمى فى الفترات الراهنة حيث تتعرض الركائز المنهجية التى تأسس عليها للتفكيك والانهيار، لكنها مثلما يقول المثل الإنجليزي “لكل سحابة جانبها المضيء”، فقد بشرت بأن هذا التحول الصعب ينطوي على فرص لأوروبا لا يمكن تعويضها بأن تسيطر أكثر على مصيرها وأن يكتسب اليورو مكانة عالمية تليق به.
ورأت لاجارد في مقال رأي نشرته صحيفة “فاينانشيال تايمز” أن “العالم يمر بتحولات خطيرة، إذ يشهد تصدعاً لقواعد السوق الحر والتعددية، فضلاً عن أن الدور المهيمن للدولار الأمريكي، حجر الزاوية لهذا النظام، لم يعد مؤكداً بعد الآن.
وفي المقابل ، فإن الحمائية، والتفكير الأحادي الصفري، وصراعات القوة الثنائية، جميعها عوامل تحل محلها. كما أن انعدام اليقين يضر بالاقتصاد الأوروبي، المندمج بعمق مع منظومة التجارة العالمية، ويضع نحو 30 مليون وظيفة في مهب الريح.”
لكن التحولات الجارية، وفق لاجارد، تتيح فرصاً أمام أوروبا أيضاً، بأن تسيطر بصورة أكبر على مصيرها، وبالنسبة لليورو بأن يكتسب مكانة عالمية مهمة. في الوقت الراهن يحتل اليورو ثاني أكبر العملات استخداماً في العالم، وتشكل نحو 20 في المائة من احتياطيات العملات النقدية الأجنبية العالمية، مقارنة بـ53 في المائة للدولار الأمريكي.
وقالت لاجارد، الرئيسة السابقة لصندوق النقد الدولي، “إن زيادة مكانة “اليورو العالمية” سوف تجلب له منافع ملموسة: تكاليف اقتراض أقل، وتقليص قابلية تعرض العملة للتقلبات والحماية من العقوبات.”
ولكنها استدركت قائلة “إن مثل تلك المكانة العالمية لعملتنا لن تأتي تلقائياً: إذ يتعين اكتسابها. ومثلما حدث في الفترات السابقة، فإن القلق الراهن بشأن العملة المهيمنة لم يتسبب في حدوث تحول رئيسي نحو الإقبال على عملات بديلة. وبدلاً من ذلك، انعكس ذلك في صورة ارتفاع الطلب على الذهب.”
وبالنسبة لليورو ، فإن الوصول إلى إنجاز قدرته الكاملة، يتعين على أوروبا تقوية ثلاثة ركائز أساسية: المصداقية الجيوسياسية، والمرونة الاقتصادية، والنزاهة القانونية والمؤسسية، على حد قول لاجارد.
على صعيد الركيزة الأولى، فإن المكانة العالمية لليورو تستند إلى الدور الأوروبي في التجارة. فالاتحاد الأوروبي أكبر شريك تجاري في العالم- إذ يحتل مرتبة الشريك الأول لـ72 دولة، ويمثل نحو 40 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. وهذا ينعكس في حصة اليورو باعتباره “عملة فواتير”، لنسبة تصل إلى حوالي 40 في المائة عالمياً. لذا لابد للاتحاد الأوروبي الاستفادة من تلك الميزة بصياغة اتفاقيات تجارية جديدة في ضوء ذلك.
وتشير مسؤولة البنك المركزي الأوروبي إلى أن ما يوصف بـ”الامتياز الباهظ”، بأن تصبح عملة احتياط دولية، حسبما وصفه الرئيس الفرنسي السابق فاليري جيسكار ديستان في ستينيات القرن الماضي، ينطوي على مسؤوليات مهمة.
ولكي تعالج إشكالية نقص سيولة اليورو في الخارج، قام البنك المركزي الأوروبي بتمديد وتوسيع “خطوط المبادلة” (سواب) و”اتفاقات إعادة الشراء” (ريبو) لشركاء رئيسيين لضمان عملية تحول سلسة لسياستهم النقدية.
تقول لاجارد “أن الثقة الحقيقية، على أي حال، تستند إلى حقائق صلبة. فالمستثمرون يبحثون عن المناطق التي تُعلي من شأن حلفائها. مثل تلك الضمانات كشفت أنها عززت حصة العملة في الاحتياطيات الأجنبية بما يزيد على 30 نقطة مئوية. وتجري أوروبا الآن تحولاً جوهرياً صوب إعادة بناء قوتها الصلبة، الأمر الذي يمكنه أيضاً أن يعزز من الثقة العالمية في اليورو.”
أما الركيزة الثانية، حسب لاغارد، فتتمثل في القوة الاقتصادية باعتبارها عموداً فقرياً لأي عملة دولية. فمُصدِرو العملة الناجحون عادة ما يوفرون ثلاث سمات رئيسية: نمو قوي، لجذب الاستثمارات؛ أسواق رأس مال عميقة وأكثر سيولة، لدعم الصفقات الكبرى؛ ومعروض وفير من الأصول الآمنة.
في تلك الجزئية بالذات، تسلط لاجارد الضوء على بعض التحديات الهيكيلة التي تواجه أوروبا. فنموها لا يزال منخفضاً بصفة مستمرة، كما أن أسواق رأس المال لازالت مفتتة- رغم الوضع المالي المتراكم القوي، إذ أن معدل الديون إلى الناتج المحلي الإجمالي يبلغ 89 في المائة مقارنة بالولايات المتحدة الذي يصل إلى 124 في المائة- كما أن المعروض من الأصول عالية الجودة يأتي في مرتبة متأخرة. وتشير التقديرات الأخيرة إلى أن السندات السيادية القائمة، التي تتمتع بتصنيف “إيه إيه” تصل إلى أقل قليلاً من 50 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، في المقابل تصل إلى أكثر من 100 في المائة في الولايات المتحدة الأمريكية.
وبالنسبة لليورو، لكي يكتسب المكانة العالمية، فإن أوروبا لابد لها أن تتخذ خطوات صارمة باستكمال السوق المشتركة، وتقليص الأعباء التنظيمية، وبناء اتحاد قوي لأسواق رأس المال. كما أن الصناعات الاستراتيجية، مثل التكنولوجيات البيئية الخضراء والدفاع، ينبغي دعمها عبر سياسات منسقة عبر بلدان الاتحاد الأوروبي. كما أن التمويل المشترك للسلع العامة، مثل الدفاع، يمكن أن يخلق أصول آمنة وفيرة.
وتنتقل لاجارد في مقالها المنشور في “فاينانشيال تايمز” إلى الركيزة الثالثة لكي يصبح عملة عالمية ذات ثقل، مشددة على أن ثقة المستثمر في عملة ما ترتبط في نهاية المطاف بمدى قوة المؤسسات التي تدعمها. وتعترف المسؤولة الأوروبية بأن الاتحاد الأوروبي يصعب فهمه من الخارج، بيد أن آلية صنع القرار المنظمة والشاملة تضمن توفير ضوابط وتوازنات، واستقرار وسياسات موثوقة. ويعد احترام حكم القانون وسيادته واستقلالية المؤسسات الرئيسية، مثل البنك المركزي الأوروبي، من المزايا النسبية الفارقة التي يتعين على الاتحاد الأوروبي الاستفادة من وجودها.
وللاستفادة محلياً أكثر من تلك المزايا، لابد علينا إصلاح الهيكل المؤسسي لأوروبا.. وينبغي عدم السماح بطغيان حق الاعتراض (الفتيو) الفردي في وجه المصالح المشتركة لدول الأعضاء الـ26 الآخرين. ولاشك أن زيادة عمليات التصويت بالأغلبية المُؤهلَة في مجالات حيوية سوف تمكن أوروبا بأن تتحدث بصوت موحد.
وتشير لاجارد عِبَر التاريخ ودروسه فإن الأنظمة تظل صامدة إلى أن تزول، كما أن التحولات في هيمنة العملة العالمية حدثت من قبل تاريخياً، وفق تأكيد كريستين لاجارد، التي أنهت مقالها بالقول “إن لحظة التغيير تلك تعد فرصة لأوروبا: فهي لحظة ’اليورو العالمي’. ولكي ننتهزها ونعزز دور اليورو في النظام النقدي الدولي، لابد أن نخطو بإصرار كأوروبا الموحدة التي تهيمن بصورة أكبر على مصيرها.”
تعليقات الزوار ( 0 )